كرامة الإنسان: البوصلة التي لا تخطئ

تمثّل كرامة الإنسان القيمة المحورية التي تقوم عليها المنظومات الأخلاقية والقانونية العادلة، وهي المعيار الحقيقي لإنسانية المجتمعات، والاختبار الصادق لعدالة التشريعات والسياسات. وحين تكون الكرامة الإنسانية هي البوصلة، يستقيم الاتجاه نحو العدل، مهما تعقّدت السياقات وتباينت المصالح.

ولم يكن مفهوم كرامة الإنسان وليد العصر الحديث، ولا نتاج المواثيق الدولية فحسب، بل هو مبدأ متجذّر في الفطرة الإنسانية، ومؤصّل في الشرائع السماوية، وفي مقدمتها الإسلام الذي قرّر هذا الأصل تقريرًا قاطعًا بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء: 70).

فجاء الخطاب عامًا يشمل الإنسان لكونه إنسانًا، قبل أي اعتبار ديني أو عرقي أو اجتماعي، مؤسِّسًا لرؤية تجعل الكرامة أصلًا سابقًا على الانتماءات، وأساسًا تُبنى عليه الحقوق والواجبات.

ومن هذا المنطلق، لم تُبنَ حقوق الإنسان في التصور الإسلامي بوصفها منحة من سلطة، ولا ثمرة صراع اجتماعي، بل باعتبارها أمانة شرعية تلتزم بها الدولة والمجتمع والفرد. فالإنسان مكرّم لأنه مخلوق مكرّم، ومسؤول لأنه مكلّف، وتكريمه مرتبط بحفظ ضروراته الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال؛ وهي المقاصد الكبرى التي شكّلت جوهر الشريعة الإسلامية، وضمانة حقيقية لصون الكرامة الإنسانية.

غير أن التحدي الأكبر لا يكمن في الإقرار النظري بالكرامة، بل في ترجمتها إلى واقع عملي. فكثير من المجتمعات ترفع شعارات الحقوق والعدالة، بينما تعاني في الممارسة من انتقائية التطبيق أو ازدواجية المعايير. وهنا يظهر الخلل حين تتحول كرامة الإنسان إلى خطاب موسمي، يُستدعى عند الحاجة، ويُغفل عند تعارضه مع المصالح أو النفوذ.

وتتجلى كرامة الإنسان في تفاصيل الحياة اليومية أكثر مما تتجلى في النصوص الكبرى؛ في العدالة، وتكافؤ الفرص، واحترام الاختلاف، والحق في التعليم، والعمل والرعاية الصحية والأمن. كما تتجلى في قدرة الإنسان على التعبير والمشاركة وصناعة القرار دون خوف أو إقصاء. فكل انتقاص من هذه المساحات هو في جوهره انتقاص من الكرامة الإنسانية، مهما اختلفت المبررات.

وفي عصر التحولات المتسارعة، تبرز تحديات جديدة تمسّ كرامة الإنسان، لا سيما في ظل الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي. فالتقدم التقني، على ما يحمله من فرص واعدة، يثير أسئلة أخلاقية عميقة تتعلق بالخصوصية، والعدالة الرقمية، وحماية البيانات، واحتمال اختزال الإنسان إلى رقم أو أداة إنتاج. وهنا تبرز الحاجة إلى مرجعية أخلاقية تضبط مسار التقدم، وتؤكد أن التقنية يجب أن تُسخّر لخدمة الإنسان لا العكس.

كما تواجه الكرامة الإنسانية تحديات فكرية وثقافية متزايدة، في ظل تصاعد النزعات الإقصائية وخطابات الكراهية وتسييس الهويات، ما يهدد مبدأ المساواة الإنسانية، ويعيد إنتاج صور جديدة من التمييز. ويؤكد ذلك أن الدفاع عن كرامة الإنسان اليوم لا يقتصر على مواجهة الظلم الصريح، بل يشمل تفكيك الخطابات الناعمة التي تبرّر الإقصاء باسم الأمن أو الثقافة أو الخصوصية.

ويظل التعليم أحد أهم المسارات لترسيخ كرامة الإنسان، لأنه لا يكتفي ببناء المهارات، بل يصوغ الوعي ويشكّل المنظومة القيمية. فالتعليم الذي يعزز التفكير النقدي، ويحترم التنوع، ويربط الحقوق بالمسؤوليات، هو القادر على إعداد إنسان واعٍ بكرامته، ومدرك لكرامة الآخرين. كما تتحمل الجامعات والمؤسسات الأكاديمية مسؤولية محورية في إنتاج معرفة إنسانية متوازنة تجمع بين التقدم العلمي والبعد الأخلاقي.

إن المجتمعات التي تجعل كرامة الإنسان محور سياساتها العامة، هي الأقدر على تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة. فالتنمية الحقيقية لا تُقاس بالأرقام وحدها، بل بمدى حفظ كرامة الإنسان، وتمكينه، وإشراكه في صناعة المستقبل. وكل مشروع يتجاهل هذا الأصل، مهما بدا ناجحًا في المدى القريب، يظل هشًّا وقابلًا للتآكل.

وفي الختام، تبقى كرامة الإنسان هي البوصلة التي لا تخطئ؛ لأنها قيمة متجذّرة في الفطرة، ومؤصّلة في الشريعة، ومطلوبة في كل زمان ومكان. وحين تُستعاد هذه القيمة في الفكر والممارسة، يصبح العدل اتجاهًا ثابتًا، وتغدو الحقوق واقعًا معاشًا، ويستعيد الإنسان مكانته التي تليق به: مكرّمًا، مسؤولًا، ومستخلفًا في الأرض.

 

بقلم: أ. د. حياة عبد العزيز نياز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *